طريقة أخرى لمعرفة الأوضاع في اليمن

السفير العربي/ محمد العبسي

لو كانت هذه زياراتك الأولى إلى اليمن ورغبت، بحكم عملك كباحث أو صحفي، أن تتعرف على أحوال الناس وأوضاع البلد، بطريقة انطباعية مغايرة، من دون الاستعانة بصديق أو دليل محلي، ودون استعمال “النظارات” الحكومية، أو عدسات مجتمع الكلاس، فكل ما عليك فعله استئجار سيارة يفضّل أن يكون سائقها قليل الكلام أو “رعوياً” من أبناء القبائل والمزارعين أولئك الذين تلمس في تعاملهم مسحة براءة وشيئاً من عفوية الريف. ارتدي زيّاً محلياً وقاوم رغبتك في ربط حزام الأمان وتجوّل في الشوارع والمدن بأناة وأريحية.

إنها دعوة، أو ربما تجربة، لاستخلاص استنتاجات بصرية أولية عن الأوضاع بالاعتماد على حاسة البصر وحسب. في اليمن يبدو ذلك ممكناً.

اطفال يلعبون على فوهة مدفع (انترنت)
اطفال يلعبون على فوهة مدفع (انترنت)

يكفي أن تشاهد طوابير السيارات الواقفة أمام محطات التزود بالوقود في مدن عدة لتتيقّن أن اليمن، أفقر دول الخليج العربي وأكبرها تعداداً سكانياً، تواجه أزمة اقتصادية خانقة ونقصاً في السيولة المالية إلى درجة عجز الحكومة عن استيراد وتوفير ما يحتاجه المستهلك المحلي من وقود.

يكفي أن تشاهد، أثناء تجوالك في العاصمة صنعاء، الحواجز الأسمنتية أمام السفارات والوزارات والمنشآت الحكومية الحيوية وحتى أقسام الشرطة لتدرك أن فاقد الأمن لا يعطيه، وأن التحدي الأمني في اليمن ليس بالهيّن، وتنظيم القاعدة ليس مجرد شبح أو فزاعة حقل.

يكفي أن تشاهد دعايات الحكومة في اللوحات الإعلانية بشوارع صنعاء، عن نجاح مؤتمر الحوار الوطني ووثيقة تقسيم البلد إلى ستة أقاليم، لتسأل نفسك: إن كان الحوار نجح وحقق أهدافه فما سبب وجود هذه اللوحة إذن؟

عندما أصيبت عائلة ماكاندو، بطل رواية مائة عام من العزلة لماركيز، بمرض النسيان كتبوا على كل شيء اسمه: علبة شاي، قنينة ماء، طاولة، سكين.. الخ.

يكفي أن تشاهد بعد الانتفاضة الشبابية المسلحين في تعز، المدينة الأكثر تعليماً ومدنيةً وتعداداً سكنياً، لتحدثك نفسُك أنك نزلت في الكوكب الخطأ.

يكفي أن تشاهد، أثناء تجوالك بالتاكسي، القصور والفلل الفخمة في الضاحية الجنوبية من العاصمة صنعاء، لتدرك أن دارون مخطئ، وأن البقاء ليس للأقوى وإنما للأوسخ.

وبالعكس؛ يكفي أن تشاهد مساكن “المهمّشين السود” الذين يشكلون غالبية عمال النظافة في اليمن كقَدَر لا كوظيفة، وهم يقطنون بيوت الصفيح التي تدعى “مَحْوى”، هناك في باب السباح أو سائلة الحصبة على مقربة من دارة الشيخ الأحمر، أو في ضاحية سعوان، على مقربة من السفارة الأمريكية، لتدرك أن مارثن لوثر كينج لم يكن لديه حلم، وأن قانون “متساوون لكن منفصلون” الفيدرالي الأمريكي، كان أرحم من القانون العُرفي اليمني “غير منفصلين إنما غير متساوين”، وأن أوباما الذي احتفل بجلوسه على كرسي البيت الأبيض، مع عجوز رفضت قبل خمسين عاماً النهوض من مقعدها على الباص لرجل ابيض وتسببت في اندلاع الحركة الحقوقية، ليس مهتماً بمحْوى السّود القريب من سفارة بلاده، وأنه لا يرى في اليمن غير شيئين: عناصر تنظيم القاعدة بعين، والطائرات من دون طيار بالعين الأخرى، وما بينهما مجرد غشاوة وأناس ينظر إلى كثير منهم بوصفهم إرهابيون محتملون مستقبلاً.

يكفي أن تشاهد شعار جماعة الحوثي (أنصار الله): “الموت لأمريكا الموت لإسرائيل اللعنة على اليهود النصر للإسلام” على جدران شوارع مدينة صنعاء لتسال السائق: في أي قرنٍ نحن؟ فإن سافرت باتجاه مديريات ومدن محافظات الشمال ورأيت الشعار محفوراً على سفوح الجبال، أو صادفت نقطة تفتيش عليها شعار الجماعة، فهذا معناه أنك في ضيافة “أنصار الله” وفي مناطق خاضعة لسيطرة جماعة عقائدية باتت أقوى من الدولة نفسها.

يكفي أن تشاهد في قلب العاصمة سيارة مسرعة يملؤها مسلحون ستعرف لاحقاً أنهم مرافقون وحراس لدى ذلك الشخص الجالس بأبهة، والمتمايز عن مرافقه، بحسن ونظافة ملبسه، الذي يدعى شيخ. فإن كنت لتسمح لي بتسريب ملاحظة هامشية كنت لأقول إن أهم أسباب تخلّف اليمن وتأخره عن اللحاق بدول المنطقة والحضارة الإنسانية ككل، إنما يعود إلى ثنائية “الشيخ والسيّد” التي حكمت اليمن قروناً عديدة وعزلته عن العالم.

يكفي أن تشاهد، في شارع الخمسين الحي السكني المفضل لنخبة نظام الرئيس السابق ونجله، لوحةً دعائية كبيرة الحجم، يظهر فيها الرئيس الحالي عبد ربه هادي ملوحاً بيده نحو الجماهير، كأي “زعيم”، وعليها عبارات الولاء له باسم أبناء محافظة صنعاء، لتدرك أن اليمن يعيش أزمة سياسية وصراع ولاءات، وأن النزوع إلى احتكار تمثيل منطقة، وإيقاظ هوياتها النائمة، ليست نزلة برد ولا زكاماً موسمياً، وأن العملية الانتقالية في البلد ليست كما هي عليه في نشرات الأخبار وخطابات مبعوث الأمم المتحدة جمال بن عمر. الأمر معقد.

جنوباً، يكفي أن تشاهد أثناء تجوالك في مدينة عدن شعارات الانفصال وعلم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية على الجدران وفوق سطوح المنازل وفي كل مكان، حتى تتيقن أن الرئيس هادي عندما قال، ويقول، في خطاباته: “إن الوحدة باقية وستظل شامخة شموخ الجبال” ربما يقصد الوحدة بين ألمانيا الشرقية والغربية!

يكفي أن تعتاد، بعد أيام من إقامتك في اليمن، على انقطاع التيار الكهربائي بشكل منتظم، لتدرك أن هذه البلد الجميلة والشقية خاضت عشرات الحروب والنزاعات الأهلية والانقلابات، منذ خمسين عاماً لكن المتعاقبين على حكمها، منذ خمسة عقود، على اختلافهم لم يتمكنوا مجتمعين من إنشاء محطات كهربائية تولد حتى 1000 ميجاوات من الطاقة.

إن لم تكتف من رحلتك بعد، فيكفي أن ترى اليمني بعد ثلاث سنوات من “الربيع العربي” يعيش يومه كيفما اتفق. الدستور معطل، لا يهم. البرلمان انتهت ولايته، لا يهم. الرئيس انتهت ولايته، لا يهم. النزاعات المسلحة تتسع رقعتها. أيضاً، وللأسف، لا يهم. “ما محبة إلا بعد عداوة”. هكذا يتكيف اليمني مع الأمر. مع الوقت وطول الإقامة ستعتاد على اللاوضع الطبيعي وتتنبه إلى أن الحياة تمضي وحسب. أحياناً تمر أيام على اليمنيين من دون ماء ولا كهرباء ولا بنزين إنما دون أن يسلبهم ذلك ابتساماتهم وروح الدعابة والنكتة. في الحقيقة لقد مرت على اليمنيين عام 2011 أسابيع وشهور طويلة أحلك بكثير مما نعيشه الآن. كان معظم سكان العاصمة دون ماء ولا كهرباء ولا وقود. الطرقات مهجورة، حرب في الشوارع، قذائف تتساقط هنا وهناك. لكننا عشنا حياتنا بشكل شبه طبيعي. كنا نكتب، نتواعد، نلتقي بأصدقاءنا، نضحك، نتناقش في السياسة في مقائل القات. وبعد المغرب نشرب شاهي بالحليب في أطرف مقهى.

محمد العبسي

عن السفير العربي

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.