قرار رفع الدعم في اليمن إذ يوسّع حرائق الغابة بدلاً عن إطفائها

السفير العربي محمد العبسي

تخبرنا إحدى قواعد الفيزياء وبديهياته أن شعلة النار التي تنطفئ عند إلقائها في بركة ماء، هي ذاتها التي تتسبب في انفجار ضخم إن تم رميها على محطة بنزين أو فوق برميل وقود. تختلف النتائج باختلاف المقدمات. هكذا تبدو سياسة، أو قرار، رفع الدعم الحكومي عن الوقود ومشتقاته التي يشجّع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على اتخاذها حكومات الدول النامية كوصفة جاهزة لكل مشاكلها الاقتصادية. أياً كانت الأعراض لا يتغير الدواء.

صراع على البترول في اليمن-رويترز

وبخلاف ما يصوّره، أو يتصوّره، أعضاء الحكومة وبعض الدبلوماسيين الغربيين في صنعاء ينبغي النظر إلى قرار الحكومة اليمنية رفع الدعم عن المشتقات النفطية، المعلن في أواخر يوليو أثناء إجازة عيد الفطر، على هذا النحو المتقلّب في المثل التقريبي.

إن قرار رفع الدعم الحكومي ليس معادلة كيميائية ثابتة، تؤدي إلى نفس النتيجة المدرسية أو النظرية المعروفة سلفاً: H + O = H2O. إنه أقرب إلى مفهوم اللايقين أو اللاتوقع في الفيزياء الكمّية (الكوانتم) منه إلى المعادلات الكيميائية في المختبر، لكونه قراراً شديد الحساسة والتأثر بأقل العوامل المحيطة به ونتائجه ليست نفسها في كل مرة. ويمكن القول، بشكل أعمّ، إن ردود أفعال المجتمعات على قرار تحرير أسعار المشتقات النفطية تختلف باختلاف البلد، أو الاقتصاد، الذي يطبّق فيه من جهة؛ كما إن جدواه وآثاره الاقتصادية، سلبيةً أم إيجابية، تختلف باختلاف الحكومات المُطبّقة له، من حيث كفاءتها أو فشلها، نزاهتها أو فسادها، من جهة أخرى.

ففي الدول المتقدمة والصناعية يزداد الاقتصاد قوة عند تحرير أسعار المشتقات النفطية وتحسّن الدولة خدمات الرعاية الاجتماعية ومستوى معيشية المواطن. بينما في الدول النامية، أو المضطربة سياسياً وشبه المنهارة اقتصادياً، أو دول الربيع العربي الخارجة من انتفاضات شعبية وتمر بمرحلة انتقالية كاليمن، فإن قرار تحرير أسعار المشتقات النفطية يبدو ضرباً من الانتحار والمخاطرة، وأقرب ما يكون إلى تفجير برميل وقود منه إلى إطفاء حرائق غابة.

التقدم إلى الوراء.. اقتصادياً على الأقل

في منتصف 2012 إثر تشكيل الحكومة التوافقية بعد تنحي الرئيس السابق وتولي نائبه عبدربه هادي السلطة، بموجب المبادرة الخليجية، قررت الحكومة تنفيذ أول “جُرعة” إصلاح سعري على فحرّرت أسعار وقود البنزين والديزل بأعلى نسبة في تاريخ الجرع، على أمل، وبذريعة، خفض نسبة العجز في الموازنة، وخفض فاتورة دعم المشتقات النفطية، وزيادة الرعاية الاجتماعية، لكن ما حصل في السنتين التاليتين هو العكس.

لدى صندوق النقد الدولي وصفة إصلاحات مصاحبة ولاحقة للجرع السعرية، منها:

 

1- زيادة الضرائب

2- خفض ميزانية الجيش

3- تقليل وتقنين التوظيف الحكومي

4 -تقليل أو وقف الاعتماد على توليد الطاقة بالوقود الثقيل.

5- تقليل سعر صرف العملة لزيادة الصادرات وتقليل الواردات مما يساعد في تقليل الميزان التجاري.

غير إن الحكومة، بعد مضي ستة أشهر فقط من أول إصلاح سعري، لدى تقديمها مشروع موازنة الدولة في يناير 2013م إلى البرلمان، وكذا عند تقديم موازنة 2014 في يناير الماضي، كانت بياناتها المالية تؤكد أن شيئاً من إصلاحات صندوق النقد لم ينفذ بل نقيضها. فقد تضاعفت ميزانية الجيش والداخلية، وارتفع الدين الداخلي وزادت فوائد أذون الخزانة بنسبة 160%، كما استمرت الحكومة في التوظيف والتجنيد فارتفع الباب الأول (المرتبات والأجور) بنسبة 63% عن آخر حكومات النظام السابق. نتيجة كل ذلك ذهب العائد المالي الذي حققته الحكومة من رفع الدعم في 2012 لتغطية النفقات المستحدثة في الموازنة ولم تستفد منه، أو تفي بموجبه، بأي من تعهداتها السابقة. وإذا كان المثل يقول “ضربتان في الرأس توجع” فإن الشارع اليمني الساخط بات يقول: “جرعتان من نفس الحكومة توجع”!

علاج المرض وليس أعراضه

كان عجز موازنة الدولة عند تسلم الحكومة التوافقية عام 2012م 233 مليار ريال ليرتفع في يناير  2014م إلى 649 مليار ريال (نحو 3 مليار دولار)، ثم يصل في مايو الماضي إلى أعلى مستوى له في تاريخ المالية: 940 مليار ريال (نحو 4 مليار دولار ونصف المليار) والذي بسببه أقرت الحكومة تحميل الشعب أعباء إضافية بجُرعة سعرية أعلنت الأسبوع الفائت.

وبالمثل، كان دعم المشتقات النفطية يعادل نحو 6 مليون دولار في اليوم عام 2012م، ليرتفع بعد رفع الدعم بنسبة 200%، وبعكس منطق الأمور، إلى 9 مليون دولار في اليوم بدء من 2013 وحتى الآن. والسبب ببساطة أن الحكومة التي قررت رفع الدعم بذريعة مكافحة تهريب الديزل، أوجدت باباً خلفياً للمهربين من خلال عقود شراء الكهرباء من شركات التأجير. وشراء الطاقة هو السوق السوداء الجديدة للفساد في اليمن. إنه مثل شراء كيلو حلوى بسعر كيلو ذهب أو كاستئجار جناح بفندق ودفع إيجار ليلة واحدة مبلغاً يفوق قيمة شراء، أو بناء، الفندق ذاته.

فبدلاً عن أن تستهلك محطات التأجير مجتمعة 331 مليون لتر ديزل كما في عام 2012م، وبخلاف وعود وزير الكهرباء بإيقاف هذه المحطات بعد ستة أشهر، استهلكت الضعف عام 2013م: 648 مليون لتر ديزل. أي أن الحكومة حرّرت أسعار الديزل على المواطن والمزارع من هنا، وضاعفت في نفس الوقت كميات الديزل المستوردة من الخارج، والمدعومة، لصالح محطات شركات بيع الطاقة.

وبالتزامن مع تضاعف استيراد الديزل والمازوت، وزيادة الإنفاق العام، انخفض إنتاج النفط الخام محلياً فاختلت المعادلة بين الصادرات والواردات. وعجزت الحكومة عن استيراد المشتقات النفطية فعاش اليمنيون ثلاثة أشهر من جحيم. فقد شوهدت أثناءها طوابير السيارات تقف، بالساعات والأيام، أمام محطات التزود بالوقود، كما تضاعفت ساعات إطفاء الكهرباء ووصلت في بعض الأيام إلى 12 ساعة.

الآن مع إقرار الجرعة السعرية الثانية، التي سترتفع بموجبها أسعار كل شيء وتتضاعف الأعباء المعيشية على المواطن، لا مناص من القول مجدداً أنه كان الأولى بالحكومة، بدلاً عن ذريعة تهريب الديزل، العمل على وقف، أو خفض كميات، الديزل المستورد.

بمعنى علاج المرض وليس أعراضه والمرض هو فساد السياسة المالية.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.