السفير العربي: نراجيل “شِيَشْ” علي ومستقبلها في جنوب اليمن؟

محمد العبسي

في مشهد شبه سينمائي صعد شاب ثلاثيني إلى منصة ساحة الاعتصام المطالب بالانفصال في قلب مدينة عدن وأخذ الميكرفون وقال بلهجة شمالية صافية: “الناس اللي عندهم شيش حق علي رجاءً يرجعوها”. بالنسبة لعلي كصاحب محلّ بسيط ومحدود الدخل فإن فقدان أرجيلتين يعني “خراب بيت”، ذلك أنه ما زال يسدّد أثمان بعضها على هيئة أقساط شهرية. توجه علي إلى المنصة وعرض بشجاعة مظلمته على الملأ ولم يمض وقت حتى أعاد منظمو الاحتجاج الأرجيلتين المفقودتين إلى محله، القريب من ساحة اعتصام خورمكسر، واعتذروا منه.

ينتمي علي شأن شريحة واسعة من الطبقة العمالية إلى المحافظات الشمالية (تعز وإب خاصة) ويعمل منذ سنوات في عدن بمقهى للأراجيل مطل على ساحة العروض أشهر ساحات عدن. المكان الذي احتشد فيه آلاف الجنوبيون بذكرى الثورة على الاحتلال البريطاني (14 أكتوبر الفائت) ونصبوا الخيام معلنين اعتصاماً مفتوحاً حتى يتحقق مطلب الانفصال والاستقلال في 30 نوفمبر القادم، في خطوة تصعيدية شجّع عليها، بشكل غير مباشر، إسقاط جماعة الحوثي (أنصار الله) العاصمة صنعاء (21 سبتمبر) وتوسعها عسكرياً في محافظات الشمال. (1)

تعرّض علي في الأسابيع الأخيرة لبعض المضايقات كالامتناع عن دفع الحساب مثلاً، وتعمد بعض السائقين القادمين من خارج عدن إيقاف سياراتهم أمام محله الذي يمتلئ في الليل بالمُدخنين وطاولات الأراجيل. وما إن يطلب منهم صفّ السيارة في مكان آخر من الساحة الواسعة، بلهجته التي يُسهل تمييزها، حتى يسمع تعليقات نابية كـ”دحباشي” وهو لفظ تمييزي انتقاصي يطلق على الشماليين، كمرادف للتخلف والاحتيال والفهلوة، انتشر إثر مسلسل كوميدي شهير في أواخر التسعينات بطله يحمل اسم “دحباش” (2).

لكن علي قلّل من هذه الممارسات، وقال للسفير العربي: “الأمر ليس بهذا السوء”، مشيداً باللجنة المنظمة للاعتصام وبعض قيادي الحراك الذين يعرفهم ويتصدون بحزم لكل سلوك مناطقي أو بلطجي.

10410614_10152827231920479_8721801253136127155_n
من فعالية 30 نوفمبر (تصوير مهدي الحسني)
بائع شمالي: هل أبدو كمحتلّ أو مُستعمر؟

يسود الشارع اليمني قلق مما سيحدث في 30 نوفمبر الذي يصادف ذكرى رحيل آخر جندي بريطاني لعدن قبل خمسة عقود، خاصة مع دعوة رئيس حزب الرابطة عبدالرحمن الجفري الشركات النفطية في الجنوب إلى التوقف عن أعمالها وعدم التعامل مع السلطة المركزية بصنعاء (3)، وتلويح قيادي آخر أن نضالهم “لن يستمر اعتصام وتظاهرات فقط” (4)، ولا يستبعد مراقبون حدوث عمليات اقتحام وسيطرة على بعض المؤسسات السيادية. قبل أيام (10 نوفمبر) بدأ منع ترديد النشيد الوطني في عدد من مدارس عدن (5).

على مستوى الشارع يخشى العمّال الشماليون وأصحاب المحلات من أعمال انتقامية أو الاستيلاء على ممتلكاتهم وتهجيرهم خاصة مع إعلان الحراك مهلة ـ45 يوماً (حتى 30 نوفمبر) أمام أبناء المحافظات الشمالية (على وجه التعميم) لمغادرة المحافظات الجنوبية” (6).

وقال بائع ملابس على الرصيف للسفير طالباً عدم كشف اسمه: “هل أبدو كمحتلّ أو مستعمر؟ أنا طالب الله وضحية بالشمال والجنوب”.

ورغم قلة التقارير الميدانية حول الانتهاكات المرتكبة ضد المواطنين الشماليين إلا أن هناك العديد من الحالات الموثقة يمكن فرزها إلى نوعين. الأولى اعتداءات تحركها دوافع الجريمة المنظمة وليس النزعات الانفصالية، ترتكبها مجاميع مسلحة وبلطجية تستغل نبرة الشارع العالية للقيام بعمليات سطو ونهب. أما الأخرى فهي مزيج مشوّه من هذه وتلك، وتتمثل في سرقة بعض المحال وحرقها (أدانها أحد فضائل الحراك)، (7) كما سُجّلت حالات “قتل بالهوية” (8)

لكن أعنف الجرائم حدثت (أغسطس 2013) في الحوطة عاصمة لحج وشهدت تهديد وتهجير العديد من الباعة الشماليين بطريقة إجرامية. كانت تلك المرة الأولى التي تخرج الدولة عن صمتها فعقد مسئولان حكوميان (جنوبيان) هما محافظ لحج وقائد المنطقة العسكرية الخامسة اللواء محمود الصبيحي (وزير الدفاع الحالي) مؤتمراً صحفياً (9) أدانا فيه تلك الجرائم وتوعدا بملاحقة وعقاب مرتكبيها.

“نظرية المؤامرة” أبرز محلّل يمني!

في صنعاء يميل الشارع إلى الاعتقاد بدور الرئيس هادي في تمويل وتشجيع فصائل متطرفة داخل الحراك الجنوبي.  و”نظرية المؤامرة” التي قد تسمعها من سائق تاكسي بصنعاء، أو عامل بناء بعمران، هي ذاتها طريقة تفكير النخب السياسية شمالاً وجنوباً. فالبرلماني والقيادي الحراكي ناصر الخبجي حتى وهو يدين، على استحياء، الاعتداءات ضد “الشماليين” فإنه يتهم السلطة (الشمالية) بالوقوف وراءها (10) للإساءة إلى الحراك الجنوبي!

أثناء الاحتجاجات الشعبية على الرئيس السابق علي صالح كانت أحزاب اللقاء المشترك تتهم نائب محافظ عدن بافتعال وتمويل الحراك المسلح لتخويف المجتمع المحلي والدولي من انفلات الأمور في حال تنحّي صالح عن السلطة. لكن الاحتجاجات زادت بخلاف ما هو متوقع، مع انتقال السلطة لرئيس جنوبي، وباتت المسيرات التي كانت بالمئات والآلاف تخرج بأعداد مضاعفة.

1601373_10152827234260479_5445355006294467706_n
من فعالية 30 نوفمبر (تصوير مهدي الحسني)

وبدلاً عن المقاربة التحليلية والموضوعية للمشهد في جنوب اليمن تتصدر نظريات المؤامرة. قيادي بالحراك اتهم مؤخراً قطر وتركيا بـ”دعم قوى حراكية لإزاحة قوى الحراك الحقيقي” (11)، بينما اتهمت صحيفة مقربة من الرئيس السابق الرئيس هادي بتمويل اعتصام ساحة العروض (12) ضمن مخطط بريطاني. لكن هذا الانطباع لم يأت من فراغ خاصة بعد ظهور نائب رئيس البرلمان محمد الشدادي المقرب من هادي، وترأسه فعاليةً تدرس خيار الانفصال عن صنعاء وتشكيل مجلس نواب جنوبي” (13). الفاجع أن الشدادي الذي بات “انفصالياً” هو ذات الرجل الوحدوي الذي طاف قبل شهرين فقط عواصم خليجية في مهمة رئاسية لإقناع القيادات الجنوبية في الخارج “بالمشاركة في بناء الدولة الاتحادية اليمنية الحديثة” (14) حسب قوله للبيان الإماراتية.

لكن الحدث الأبرز والأكثر دراماتيكية كان عودة عودة عبدالرحمن الجفري رئيس رابطة الجنوب العربي، المقرّب من السعودية، وتبشيره بـ”الحسم الثوري واستعادة دولة الجنوب” (15)، وقد سبقتْ وصاحبت عودته تنامي تياره من دعاة الجنوب العربي الذين كانوا حتى وقت قريب أقلية بينما كان تيار الرئيس الأسبق علي سالم البيض، المقرّب من إيران، الأكثر حضوراً واحتكاراً للقضية.

وفق هذه المتغيرات المُربكة لم يعد الصراع كما كان تنافساً بين أفكار ومشاريع (فيدرالية، فك ارتباط) أو بين زعامات سياسية (باعوم والعطاس وعلي ناصر) وأتباعهم، أو بين تحالفات واصطفافات مناطقية قديمة تشكّلت قبل وبعد أحداث 86م الدامية (الطغمة والزمرة)، بقدر ما هو جولة جديدة، وربما عنيفة، من الصراع السعودي الإيراني الذي حُسم لصالح الأخيرة في صنعاء، ويبدو في طريقه للحسم لصالح حلفاء الأولى في عدن.

جنوب داعشي.. شمال رافضي

الباحث السياسي ماجد المذحجي قال في حديثه للسفير العربي إن عودة الجفري لا يمكن أن تقرأ إلا بوصفها تحركاً سعودياً لإعادة تموضع القوى في الجنوب واحتكار تمثيله سياسياً وتمكين طرف على حساب آخر ضمن صيغة تسوية تحظى نوعاً ما بموافقة ضمنية خليجية العنوان العريض فيها: قيام دولة جنوبية “سنية” في مواجهة دولة “شيعية” شمالية بحكم سيطرة الحوثي.

أبعد من ذلك، عبّر الشاعر والناشط والمعتقل السابق كريم الحنكي عن تخوفه من مسار الأحداث في الجنوب، وقال للسفير: “قبل عام كنت لأصوّت دون تردد لصالح الانفصال أما الآن فلا”. ونشر الحنكي مؤخراً قصيدة أحدثت جدلاً في أوساط المثقفين الجنوبيين، وفيها:

عَرَفْنا الوحدةَ الشَّنعاءِ شَرَّاً

وشَرُّ فِكاكِها أَمْسَى جَلِيَّا

أَرَدْنَا الِانْفِصَالَ بِخَيرِ وَجْهٍ

فَلَاحَ لِيَ انْفِصالاً كارِثِيَّا

يَحُومُ علَى الْجَنُوبِ الْآنَ شَرّاً

تُبَيِّنُهُ الْمَلامِحُ داعِشِيَّاً (16)

إحالات:

(1)      http://www.skynewsarabia.com/web/article/695052/%D8%B9%D8%AF%D9%86-%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D9%85-%D9%85%D9%81%D8%AA%D9%88%D8%AD-%D9%84%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%81%D8%B5%D8%A7%D9%84

(2)      https://www.google.com/url?sa=t&rct=j&q=&esrc=s&source=web&cd=2&cad=rja&uact=8&ved=0CCIQtwIwAQ&url=http%3A%2F%2Fwww.youtube.com%2Fwatch%3Fv%3DI97Y37hLlJc&ei=7mxuVOumHOv-ygPQrYGwDQ&usg=AFQjCNERg43Ix8Sfyrumoc9BBztx3gOvZg&sig2=sweuinItVqrOHcmfWCRlNg&bvm=bv.80185997,d.cGU

(3)    http://www.eremnews.com/?id=81698

(4)    http://adenalghad.net/news/133755/#.VG53a_msUZA#ixzz3JfAS1tmm

(5)    http://shabwaahpress.net/news/22480/#ixzz3Je4kZStX

(6)    http://www.barakish.net/news02.aspx?cat=12&sub=23&id=223856

(7)    http://www.khabaragency.net/news1984.html

(8)    http://www.alriyadh.com/478234

http://www.yemeress.com/akhbaralyom/10204

(9)    http://www.youtube.com/watch?v=qsBoREiuqR4

(10)  http://m.nashwannews.com/news.php?action=view&id=4846

(11)  http://www.yemenat.net/news51807.html

(12)  http://www.barakish.net/news02.aspx?cat=12&sub=23&id=255351

(13)     http://www.aawsat.com/home/article/210866/%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%88-%D8%B9%D8%AF%D9%86-%D9%8A%D8%B9%D9%82%D8%AF%D9%88%D9%86-%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%87%D9%85-%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%81%D8%B5%D8%A7%D9%84-%D8%B9%D9%86-%D8%B5%D9%86%D8%B9%D8%A7%D8%A1

(14)  http://www.almashhad-alyemeni.com/news39730.html#sthash.GqzhTjIT.dpuf

(15)  http://yemennow.net/news333609.html

(16)  https://www.facebook.com/alaeyam/posts/734401713312948

نشر في السفير العربي

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.