عن معجزة اسمها محمد علي كلاي

استمتعتُ أمس بإعادة مشاهدة أكثر من فيلم وثائقي مميزعن أعظم رياضي في القرن العشرين، ومن غيره: محمد علي كلاي. لا أملّ من مشاهدة هذا الرجل أكان على الحلبة أم في حوار تلفزيوني. في شبابه كما في شيخوخته وبعد مرضه.

ali_20120115210635382202-600x400لدى محمد علي كلاي على الصعيد الشخصي خصال مميزة قل أن تجتمع في إنسان: حضوره الفاتن وتعابير وجهه الباعثة على الانشراح، وروح دعابته الآسرة، وسرعة بديهة مذهلة، وذكاء منقطع النظير. ولئن كانت كل هذه الخصال مجتمعة فيه فإن آراءه المثيرة للجدل، لكن الصادمة أحياناً وتعليقاته الجذابة وفكاهاته جعلته الشغل الشاغل للصحافة.

يساله الصحفي كيف رأى بطل العالم وقتها سوني ليستون فيرد فوراً: أليس قبيحاً ليكون بطلاً للعالم؟ ألست أوسم منه؟ 

وعندما سأل ما إن كان يعرف أين تقع فيتنام بعد تصنيفه في المستوى A1 للتجنيد في الحرب يجيب بشيء من الدعابة اللئيمة: “نعم. إنها في التلفاز”! ومثلما كانت دعابته جذابة فإنه في الأوقات العصيبة يعرف جيداً كيف يؤثر في الناس بصدقه وعمقه وعباراته المؤثرة. قال كلاي: “لماذا علي وعلى الذين يدعون زنوجاً أن نسافر عشرات الأميال لإلقاء قنابل على أناس أبرياء سود وسمر لم يزعجوننا في شيء. معركتي هنا مع من يزعجني في كنتاكي ويمنعني من دخول مطعمه او متجره بسبب لون بشرتي”.

111111111111عرف كلاي مرارة تعرض الإنسان للازدراء والعنصرية. عندما فاز كلاي بالميدالية الذهبية في الاولمبياد بايطاليا وهو في السابعة عشر عاد إلى مسقط رأسه فرحاً ودخل مطعماً للبيض وهو يرتدي الميدالية الذهبية التي أحرزها باسم أمريكا فرفض صاحب أن يقدم له الطعام. قال لكلاي لا نقدم الطعام للزنوج فحاول أن يدفعه إلى ذلك عن طريق الدعابة قائلا: ولا أنا أكل طعامهم”. طلب هامبرج فكان الرد نفسه، فحاول مجدداً كلاي أن يكون لطيفاً وفكاهياً فطلب منه صاحب المطعم الخروج أو سيتصل بالشرطة.

كانت تلك هي اللحظة الفارقة في حياة كلاي.
إنها أكثر لحظة تكشف بوضوح عن شخصيته الاستثنائية.
عن انسجامه مع أفكاره ومعتقداته وإيمانه بما سوف يكون مستقبلاً.
وقف أمام النهر وألقى بالميدالية الذهبية التي كان لا يخلعها وينام وهو يرتديها.
00000495
لم تعد تمثل له شيء. اعتقد للحظات أنها قد تدفع الأمريكي الأبيض إلى الإعجاب به لكونه شرّف الولايات المتحدة الأمريكية ومثلها في محفل دولي. أدرك أنه كان حالماً، وربما هذا السخط، هذا الشعور بالمهانة والإذلال والرغبة بالانتقام وإثبات الذات يعود الفضل لها في توجيه مسار حياة محمد علي كلاي. (وهنا ايضا عظمة امريكا كيف ان الاوضاع تغيرت فيها من منع بطل دخول مطعم للبيض إلى جلوس رئيس أسود على كرسي البيت الأبيض في أقل من خمسين عاما)

أهم خصال محمد علي كلاي في تقديري الشخصي هي عناده وإصراره وجرأته في الإفصاح عما يؤمن به مهما كان صادماً أو مخيباً للآمال والتوقعات. وقد تزاحمت في رأسي أسئلة كثيرة من الصعب الإجابة عليها بشكل يقيني، إثر مشاهدتي لهذين الفيلمين الوثائقين، إلى جانب أفلام ومقالات أخرى من أوقات سابقة.

يحرص معد الفيلم على إعادة مقاطع مسجلة من لقاءات سابقة جمعته بكلاي كشيء من المقارنة بين رأئيه في مسألتين مختلفين وهما: المرأة والعنصرية، الأولى مطلع السبعينات والاخرى قبل سنوات حديثاً. لا يتحرج كلاي في لقاء تلفزيوني اجري في السبعينات عن التعبير بصراحة، لا تخلو من فجاجة عن رايه في المرأة ومشاركتها في الحياة الى درحة يبدو معها رجلاً “رجعياً” إن جاز التعبير حيث يقول بمنتهى الصراحة أن دور المرأة “أن تطبخ وتهتم بالأولاد والمنزل باعتبار ذلك دورها الأساسي في الحياة.

وفي لقاء آخر، سجّل في الفترة العصيبة التي شعر أن العالم كله ضده: فسحب منه ترخيص الملاكمة، ولقب بطل العالم وكان مهدداً بالسجن لرفضه المشاركة في حرب فيتنام، في ذلك اللقاء رد بحدية مبررة وعبر عن قناعاته بأن “كل الرجال البيض أشرار”.
حاول المذيع الأبيض، وهو صديق له، أن يخفف من حدته ومن التعميم في كلامه بأنه يتفق معه بوجود رجال بيض اشرار ولكن ليس كلهم فيقاطعه كلاي:
“بكل كلهم”.
3183743_2يعرض الفيلم عددا من اللقطات الصادمة، التي ينبغي ألا تقرأ خارج سياقها الزمني والموضوعي ثم يساله عن آراءه في القضايا ذاتها، بعد مرور ثلاثين سنة، فتكون إجابة كلاي غير تلك وعلى النقيض منها.
كلا ليس كل الرجال البيض، ولا السود طبعا، أشرار.

فكرت هل كان كلاي”بعقله” عندما آمن حقاً أن جميع الرجال البيض أشراراً رغم أن مدربه أبيض؟ أكانت حماسة وانفعالا أم وسيلة وطريقته المثلى لإدانة الانتهاكات العنصرية وقتها ضد السود؟
الأهم: هل كان كلاي ليكون الأسطورة كلاي لولا ذلك العناد، والمكابرة، والسباحة ضد التيار.

عام 1964م كانت كل المعطيات تقول باستحالة فوز كلاي على سوني ليستون ولكنه فلعها وهزمه في الجولة السابعة بأن انسحب بطل العالم. من النادر أن ينسحب بطل العالم فهو يقاتل إلى أن يسقط لكن كلاي فعلها.
Clay Listens
في الفيلم الوثائقي الثاني تتضح أمور كثيرة في شخصية كلاي لكونه يغطي حياته منذ شبابه حتى لقاءه بسوني ليستن. كان لافتا كيف انه استخدم كل حيل الثانوية من اجل دفع ليستن على موافقة مواجهته. وقد شاهدت عشرات المرات المقطع الذي يتحدث كلاي فيه أثناء المؤتمر الصحفي له وليستن. بدا ليستن شاحباً ومصفراً من ثقة كلاي وكلامه.
قال كلاي: “ان اكبر مفاجأة في القرن العشرين ستحدث عن مواجهتي لليستن”.
عاد ظهره لثوان إلى الوراء. ثم دق الطاولة وأضاف بثقة مرعبة:
“اذا اردت ان تخسر أموالك فراهن على فوز ليستن”!

عام 70م بعدئذ نزع عنه اللقب عن كلاي وانفض الناس من حوله، وبات مفلساً، ومنع من مزاولة الملاكمة زاره صحفي لإجراء مقابلة. كان إلى جواره سوني ليستن الذي كان قد مات بسبب المخدرات قبلها بشهور على إثر هزيمته من كلاي وتخلي المافيا التي كانت تسيطر على حلبات الملاكمة وقتها، عنه. قال كلاي: “لو أن سوني ليستن كان موجودا كنا سنقضي أوقات ممتعة مع بعضنا البعض”

ساله الصحفي ماذا كنت ستقول له فتوسعت حدقتا عيناه بطريقة كوميدية رائعة، ونظر في صورة ليستون قائلا: “كنتَ تخيفيني يا رجل”.

الوثائقي الثاني ممتع وغني بالتفاصيل والوقائع. إنه يقدم صورة متكاملة عن طريقة كلاي في اللعب والحديث للصحافة وشخصيته وكاريزميته، وطرقه في التحرش بمنافسيه، أو التعريض بهم، حتى أنه لا يكف عن تعليقاته المستفزة من مثل الدب القبيح الذي وصم به ليستن.

كان متعجرفاً بعض الشيء، أعرف، لكن أكان ليكون كلاي لولا ذلك؟

الأهم في الوثائقي الثاني أنه يقدم كلاي السياسي والإنسان وبطل العالم الذي أسلم واعلن تغيير اسمه من كاسياسي، وهو اسم عبد كما قال، إلى محمد علي كلاي. ربما هذا إلى جانب مواقفه ورفضه المشاركة في حرب فيتنام، والحرب كمبدأ، وتضحيته بلقب البطولة وحرمانه من الملاكمةلخمس سنوات حتى يبلغ الثلاثين ويسهل هزيمته، اصافة الى خسارته عشرة ملايين دولار، كلها عوامل تضافرت وكانت سببا لشهرته وعالميته.

لكن كلاي الرياضي المعجزة في الوثائقي الأول، أو وثائقي آخر كل أجزائه التسعة تدور حول مباراته مع جورج فورمان عام 1974بعد عشر سنوات من فوزه على سوني ليستون وتتويجه بطلاً للعالم. (وفاز باللقب للمرة الثالثة ايضا عام 1978م وهو ما لم يحققه احد سواه)

كان كلاي في الـ31 من عمره. في رياضة الملاكمة ما إن يصل الملاكم إلى ال27 او 28 حتى يبدأ التفكير بجدية في الاعتزال. لم يسبق لملاكم أن فقد اللقب الذي فاز به وهو في مطلع العشرينيات ليستعيده وهو في عقده الثالث إلا كلاي.
3185841_13
هناك في زائير حصلت المعجزة:
علي بوم ما ييه
“علي اقض عليه” هكذا كانت الجماهير تهتف.

وتغلب كلاي يومها على وحش بكل ما للكلمة من معنى يصغُره في السن، ويفوقه في القوة، وأطاح بجميع منافسيه وأسقط بضربة قاضية في الجولة الثالثة بالملاكم جو فرايز الذي استطاع هزيمة كلاي بالنقاط فيما عرف بمباراة القرن (هزمه كلاي بعدها مرتين).

إنه جورج فورمان. ما من أحد توقع فوز كلاي وأنه تمكن من استعادة لقبه الذي أخذ منه ظلماً بسبب موقفه السياسي ورفضه المشاركة في حرب فيتنام.

مباراة فورمان هي المستحيل بعينه.
إنها المباراة التي تظهر عبقرية كلاي الرياضية، وتقدم لنا درساً بليغاً حول إمكانية تغلب الإنسان على خصم يفوقه في كل شيء من خلال الصبر والتركيز على الهدف وإضعاف وإنهاك الخصم وإيهامه بتفوقه عليك.

لقد ظل كلاي على الحبال يدافع ويتجنب اللكمات منذ الجولة الثانية وحتى الثامنة. وقبل نهاية كل جولة بـ20او 30 ثانية، بعد إنهاك خصمه، يشن هجومه الخاطف…. وهكذا حتى الجولة الثامنة عندما أسقطه كأنه شجرة في غابة كما قال المعلق على المباراة.
09834567092873645
استمتعوا بالمشاهدة
وغيروا قليلا هرباً من السياسة
اتوق بشدة الى سماع آرائكم وأفكاركم

لطالما أردت أن أفعل ذلك مع افلام ومسلسلات وكتب كثيرة فتشغلنا السياسة والحديث اليومي العقيم والمحبط والمدمر للذات والآخر. لنبدأ من اليوم فصاعداً. سأحرص على ذلك وإن لم أفعل آمل أن تحثوني أنتم يا أصدقائي الرائعين.

الوثائقي الأول
http://www.youtube.com/watch?v=ACNYPKPyZSE

الوثائقي الثاني
http://www.youtube.com/watch?v=iVadJQS_T_0

البوم صور في المدونةhttp://mohamedalabsi.blogspot.com/2014/08/mohamed-ali-clay.html#more

 جميع الصور من الانترنت

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.