اليمن بين جحيمين

محمد العبسي

لو قصدتَ شارع جمال عبد الناصر في وسط البلد، بعد السابعة مساء لن تصدق ما تراه عيناك. آثار وذعر الحرب تتجلى بوضوح في شارع جمال أحد أهم شوارع العاصمة صنعاء التجارية وأكثرها ازدحاماً وحيوية. ذلك أن شارع جمال في صنعاء يعادل طلعت حرب في القاهرة، والحمراء في بيروت، والحبيب بورقيبه في تونس، لكنه منذ بدء غارات تحالف عاصفة الحزم على اليمن قبل أسابيع، بات أكثر سكوناً وكآبة من مقبرة، وأشبه ما يكون بمنطقة مهجورة. جميع المحلات التجارية مقفلة على طول الشارع لمسافة كيلو. ولا وجود للباعة المتجولين الذين يعرضون عادة بضائعهم في الرصيف على امتداد الشارع وجانبيه. وحدها بضائعهم في الشارع تنتظر عودة الحياة إلى طبيعتها وقد ودّعها أصحابها مؤقتاً، وتركوها دون حراسة، ملفوفة بأغطية و”طرابيل” بلاستيكية ومحزومة بشكل جيّد بالحبال، في مشهد نادر الحدوث ولم يسبق من قبل.

لكن تلك الصورة ليست كاملة. أو هي، على الأقل، ترى المشهد من زاوية واحدة فحسب. على مسافة ليست ببعيدة (أكثر من كيلو) تبدو الحياة شبه اعتيادية في ميدان التحرير وشارع علي عبد المغني وحي المطاعم والعدل. باستثناء الذعر البادي على وجوه اليمنيين، وقلة حركة السير وخلو معظم الشوارع من السيارات والمارة، تبدو الحياة شبه اعتيادية في العديد من مناطق وأحياء العاصمة صنعاء وسائر المدن والمحافظات التي شملتها غارات تحالف “عاصفة الحزم”.

يمكن القول إجمالاً إن مظاهر الخوف من الحرب تقلّ ويمارس السكان حياتهم بشكل روتيني في معظم الأحياء البعيدة عن محيط ثكنات الجيش، أو المقرات الأمنية، أو المؤسسات الحكومية السيادية، وتجمعات الحوثيين ومقارهم؛ والعكس. الأمر الذي يفسّر حالة الهلع السائدة في شارع جمال بسبب وجود القصر الجمهوري وخشية المواطنين من استهدافه بغارة جوية، خاصة وأنه استخدم لأسابيع عديدة كمقر لاجتماعات أعضاء اللجنة الثورية، التي شكلتها في وقت سابق جماعة الحوثي (أنصار الله) إثر ما وصفوه بـ”الإعلان الدستوري”. إضافة إلى احتمال أن تكون جماعة الحوثي هي من طلبت من الباعة إخلاء الشارع، حيث سبق أن طلبت من الأهالي إخلاء مساكنهم، عبر عُقّال الحارات (المختار) أو عبر توزيع منشورات تحذيرية، في العديد من الأحياء كحي الأصبحي مثلاً الكائن في محيط دار الرئاسة وجبل النهدين الذي تتمركز فيه ألوية الحماية الرئاسية والقوات الخاصة.

ذعر في صنعاء وحرب شوارع في عدن

هكذا هو الوضع في صنعاء والعديد من المدن اليمنية: الدراسة توقفت في كل المدارس الجامعات ومعاهد اللغة والحاسوب، معظم موظفي القطاع الحكومي انقطعوا عن العمل. العديد من المصانع والمنشآت التجارية توقفت عن الإنتاج. وفي حين نزح عشرات الآلاف من سكان العاصمة نحو قراهم بعيداً عن القصف، يقضي سكّان صنعاء، أو ما تبقى منهم، الليل كله في رعب شديد جراء القصف المكثف لطيران التحالف ودوي الدفاعات الأرضية، وما تتسببان به من ارتجاجات وتهشم لزجاج النوافذ في العديد من أحياء العاصمة.

بالمقابل، يبدو الوضع أكثر كارثية في المحافظات الجنوبية وبخاصة في مدينة عدن مقارنة بصنعاء. حيث تعيش المدينة أوضاعاً إنسانية وأمنية صعبة وخطرة نتيجة القصف العشوائي، وسقوط أكثر من مائتين قتيل وآلاف الجرحى، على أقل تقدير حسب تقارير حقوقية، جراء حرب الشوارع الدائرة بضراوة في أحيائها المكتظة بالسكان، ما بين المقاومين من أبناء المدينة ورجال القبائل، وما بين مسلحي الحوثيين، الذين تقدموا عسكرياً نحو عدن قبل نحو شهر، تساندهم وحدات عسكرية موالية للرئيس السابق علي عبد الله صالح.

وما بين غارات جوية في الشمال، وحرب شوارع ومواجهات برية في الجنوب يعيش اليمنيون بين جحيمين (تظهر صور ومقاطع فيديو متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي مدى ضراوة المواجهات والجرائم وآثار القصف على الأحياء السكنية في عدن)

 

المصائب لا تأتي فرادى: معاناة يمنيّ الخارج

يمنيو الخارج ليسوا بأقل سوء ممن هم في الداخل. بحسب تقديرات منظمات حقوقية فإن أكثر من خمسة آلاف يمني عالقون في العديد من المطارات حول العالم جراء إقفال وتوقف خطوط الملاحة الجوية والبحرية والبرية من وإلى اليمن كلية من قبل دول تحالف عاصفة الحزم. وما يزال العشرات منهم عالقون في عدد من المطارات الدولية فلا سمح لهم بالدخول إلى البلدان التي كانوا فيها لانتهاء الإقامة أو التأشيرة، أو توقفوا فيها، ولا قامت دول تحالف عاصفة الحزم بتوفير بديل مؤقت، أو تأمين ممر جوي آمن على نحو ما قامت به عند إجلاء ونقل العديد من الجاليات والبعثات الدبلوماسية والرعايا الأجانب العاملون في اليمن.

ويبدو أن المصائب لا تأتي فرادى. فقد أعلنت مصر المشاركة في تحالف “عاصفة الحزم” عن عدم السماح لليمنيين بدخول أراضيها من دون قطع تأشيرة دخول (فيزا). وهو الإجراء الذي انعكس بشكل مؤثر على اليمنيين بحكم الارتباط الوثيق بمصر، والجالية اليمنية الكبيرة في مصر، وتعدّ الثانية بعد المملكة العربية السعودية. وقد استقبل الشارع اليمني قرار السلطات بالكثير من الاستياء وكان بمثابة صدمة نفسية، بحكم التقارب الشديد ما بين مصر واليمن، وكون مصر أكثر دولة يقصدها اليمنيون بغرض السياحة والعلاج بمعدل ثلاث رحلات يومية على الخطوط الجوية اليمنية، ولطالما كانت أكثر البلدان العربية حميمية في علاقتها باليمنيين وانفتاحاً واحتفاءً بهم، وأكثرها تأثيراً على الأوضاع السياسية في اليمن.

ماذا لو استمرت الحرب لشهر إضافي أيضاً؟

يسود الشارع اليمني تشاؤم وقلق من استمرار الغارات الجوية على اليمن وبقاء منافذه البحرية والجوية والبرية مغلقة لمدة أطول، وتأمل شرائح واسعة من المجتمع اليمني وبخاصة في العاصمة ومحافظات شمال الشمال، أن يتم التوصل إلى حل وتسوية سياسية لإنهاء الحرب، حتى لا تقدم دول التحالف على الدخول بقوات برية إلى اليمن، لما سيترتب على ذلك من معاناة إنسانية وأزمات اقتصادية في دولة هشة تعاني أوضاعاً صعبة أصلاً قبل بدء غارات عاصفة الحزم.

وليس من المبالغة القول إن الأوضاع الاقتصادي ستنهار كلياً في حال استمرت الحرب لشهر إضافي فكيف أكثر. ذلك أن العديد من المصانع والقطاعات التجارية أغلقت وتوقفت جراء الحرب وانقطاع خطوط النقل والملاحة الداخلية والخارجية. كما إن التعاملات والحوالات البنكية إلى داخل اليمن توقفت كلياً. وبالتزامن مع موجات نزوح جماعية العاصمة صنعاء ومدن أخرى، يشهد السوق الاستهلاكي العديد من الأزمات ضمن تداعيات الحرب. ومنها دون شك ارتفاع أسعار المواد الأساسية وانعدامها واحتكارها والتلاعب بها في السوق السوداء، وارتفاع سعر صرف الريال اليمني مقابل سعر الدولار المنعدم أصلاً في الأسواق. إضافة إلى أزمة خانقة وانعدام المشتقات النفطية والغاز المنزلي وارتفاع أسعارها في العديد من المدن، إلى درجة مشاهدة طوابير السيارات، تقف بالأيام وليس الساعات، أمام محطات التزود بالوقود، في صفوف طويلة تصل إلى نصف كيلو في بعض مناطق العاصمة.

وحدها تجارة القات وأسواق بيعه في المدن تعمل بشكل منتظم، رغم ارتفاع أسعاره نتيجة انقطاع الطرق الرابطة ما بين المحافظات اليمنية، وارتفاع مخاطر السفر في الخطوط الرابطة ما بين المحافظات، لكون معظم أنواع القات، والنسبة الكبرى مما يتم استهلاكه في داخل العاصمة وسائر المدن يتم نقلها يومياً عبر البر وتأتي من محافظات أخرى أو على الأقل من القرى والأرياف وضواحي المدن كما هو الحال في صنعاء.

 

الخشية من “الراجع” من أعيرة المضادات الأرضية أكثر من القصف

بالنسبة لـ”علي محمد” بائع الفاكهة ذي الأربعين عاماً لا شيء تغيير على مستوى سلوكه اليومي منذ بدء الغارات الجوية، باستثناء أنه بات أكثر تجهماً، وأن دخله اليومي قلّ بشكل كبير نتيجة ظروف الحرب. الأمر الذي انعكس بشكل سلبي وكارثي على القدرة الشرائية لدى المواطن وأمنه المعيشي ونفسيته.

ورغم كل ذلك لم تؤثر الحرب وتداعياتها على حياة “علي محمد” وبرنامجه اليومي بشكل كبير. إنه يستيقظ باكراً كعادته صباح كل يوم. يفتح دكانه في وسط العاصمة صنعاء بشارع العدل. في ساعات العصرية يمضغ القات ويتأمل المارة ثم يواصل يومه بشكل روتيني، بنفس الكيفية التي يفعلها منذ عشر سنوات. ورغم محاولته التظاهر بالتماسك والمضي قدماً إلا أن الكآبة البادية على وجهه تفصح، دون الحاجة إلى الكلام، عن القلق الذي يعيشه اليمنيون من أن تطول الحرب وتتردى الأوضاع الاقتصادية والإنسانية أكثر، خاصة في حال قررت دول التحالف الذي يضم عدد من الدول العربية والخليجية وتقوده المملكة العربية السعودية، التدخل بقوات برية إلى اليمن.

لدى اليمنيين قدرة هائلة على التكييف مع الحروب والنزاعات المسلحة. يقول علي “سبق أن مررنا بما هو أسوا” قاصداً مواجهات سبتمبر 2011 بين قوات الحرس الجمهوري والقوات المنشقة عن النظام والمنضمة إلى الثورة الفرقة أولى مدرع، التي أخذت طابع مواجهات الشوارع وحروب العصابات كما هي الحال في مدينة عدن منذ أسابيع. حيث انقسمت العاصمة إلى نصفين متحاربين، وقطعت الشوارع وشلت الحركة، ونصب الجنود متارسهم في داخل الحارات والأزقة، وتحولت العديد من الأحياء الرئيسية الضاخة بالحياة كشارع الزبيري أو هائل أو قاع اليهود إلى مناطق مهجورة خالية من الحركة كلياً. وهذا ما يخشاه السكان المحليون في حال تطورت الحرب إلى مواجهات برية.

الشيء الوحيد الذي تغير بالنسبة لـ”علي محمد” أنه بات مضطراً إلى إقفال محله، والعودة إلى منزله في الثامنة مساء، وهو وقت أبكر مما يفعل عادة في الأوضاع الاعتيادية.

شأن كثير من اليمنيين، تخلو شوارع صنعاء من الحركة مع حلول المساء، لكون النسبة الكبرى من الغارات الجوية لطيران التحالف تتركز وتبلغ ذروتها بين السابعة مساء حتى الساعات الأولى من شروق الشمس. ورغم شدة الانفجارات التي تهز العاصمة بشكل يومي منذ بدء غارات التحالف، ورغم ارتجاج المنازل واهتزاز النوافذ وتهشمها في العديد من الأحياء، ورغم سقوط ضحايا مدنيين وأبرياء بينهم نحو مئة طفل وامرأة حسب إحصائية لمنظمة اليونيسيف، جراء عدد من الغارات الخاطئة؛ إلا أن المفاجئ، والصادم نوعاً ما، أن أكثر ما يخيف سُكان المدن، وبخاصة العاصمة صنعاء، التي يقطنها ثلاثة ملايين نسمة، ليس قصف طيران التحالف، بقدر خشيتهم من أن يكونوا ضحايا ما يرتد من السماء من أعيرة المضادات الدفاعية الأرضية التي لا تنفجر في الجو وتتساقط على رؤوس المواطنين ومساكنهم، مما يسمّيه المجتمع الصنعاني بـ”الراجع”، وقد سجلت العديد من حالات الوفاة والإصابة بجروح مختلفة جراء “الراجع”. وتظهر مقاطع فيديو يتم تداولها بشكل واسع في مواقع التواصل الاجتماعي وواتساب فيديو لسيارة اخترقها عيار راجع من المضادات الأرضية مخلفاً ثقباً كبيراً في سطحها.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.